إلي رحمة الله

 

2- الشيخ حبيب الرحمن السلطانبوريّ رحمه اللّه

 1346-1428هـ = 1927-2007م

 

 

  

 

  

 

 

       يوم السبت 12/ رجب (بالتقوم الهندي) 1428هـ الموافق 28/ يوليو 2007م وافت المنيةُ العالم والمُعَلِّمَ الحاذق الشيخ حبيب الرحمن السلطانبوري بوطنه «سُلْطَانْبُوْرْ» عن عمر يناهز 80 عامًا ، بعد ما عانى الأمراض طويلاً ولاسيّما أمراض المعدة التي كان مصابًا بها منذ سنوات طويلة . وقد أم الصلاة عليه أستاذ الحديث والتفسير بدارالعلوم ندوة العلماء فضيلة الشيخ برهان الدين السنبهلي القاسمي / حفظه الله وحضرها كثير من أساتذة الدار ومحبيه ومعارفه وعامّة المسلمين  .

       كان الشيخ أستاذًا لموادّ النحو والصرف والفقه بدارالعلوم ندوة العلماء وقد عَمِلَ بها نحوَ نصف عمره . وكانت لدروسه سمعةٌ طيبةٌ وصيتٌ واسعٌ . وكان مُوَاظِبًا على المواعيد والأوقات بشكل مثاليّ، وكان تلاميذُه يُحِبُّونَه كثيرًا لتدريسه المُجْدِى وبراعته في شرح الموادّ التي كان يقوم بتدريسها . وكان مَثَلاً يُحْتَذَى في النظافة والتَّأنُّق في جيع مناحي الحياة . وكان منقطعًا إلى الدراسة والتدريس، حَصَر حَيَاتَه فيهما ؛ فلم يكن له شغلٌ غير ذلك إلاّ الحاجات البشريّة المُلِحَّةُ التي كان مضطرًّا أن يقوم بها .

       وكان واضحَ النطق ، جميلَ النبرة ، عذبَ الصوت ، الأمرُ الذي كان يُعِين على انجذاب الطلاب إلى دروسه ومحاضراته . وكان كبيرَ الاهتمام بتحضير الدروس التي كان يلقيها ، فكانت تَتَأَتّي كثيرةَ النفع . وكان رجلاً ظاهرُه لايختلف عن باطنه . وتلك قيمةٌ إنسانيّةٌ كبيرةٌ قد لاينزل على مقياسها حتى كبارُ الرجال الجامعين بين العلم والمُؤَهِّلاَت الكتابيّة والتأليفيّة والخطابيّة؛ من ثم لم يكن له عدوٌّ وإن لم يكن له أصدقاء كثيرون ؛ لأنه كان يعيش حياة شبه عزلة ؛ حيث كان من العزوفين عن الاحتكاك بالناس والمشاركة في أحلامهم .

       كانت غرفته التي يسكنها مُنَسَّقَةً جدًّا كلُّ شَيء فيها في مكانه المناسب ، وكان يَتَوَخَّى النظافَةَ في كل شيء حتى في الرجل الذي يجرّ عربة «ركشا» فإن كان وَسِخًا تنتشر الرائحة الكريهة من ملابسه، كان يرفضه وركشاه ، وكان يُكَلِّف تلميذَه المعنيَّ أن يُحْضِر «ركشًا» أخرى صاحبُها يكون أنظف وأكثر منه اهتمامًا بالبذلة والهيئة .

       يحضر المسجدَ لصلاة الجماعة ، فكان يَتَحَرَّى وسطَ المروحة السقفيّة ؛ فكان يقوم مُحَاذِيًا لنقطة الوسط لقرصها المُدَوَّر، وكان ينفضّ من حول مُصَلّ إذا قام بجنبه وهو وَسِخ الملابس تفوح الرائحة الكريهة من جسمه ، وكان يَتَأَذَّى من أي مكان فوضويّ أو شيء فيه موضوع بطريقة فوضويّة .

       أذكر ذلك السيناريو اللطيف الذي تَشَكَّل لدى انتقاله من غرفة في مُجَمَّع الفصول الدراسيّة القديم بدارالعلوم ندوة العلماء كان يسكنها منذ سنوات طويلة ، إلى غرفة خُصِّصَتْ له في الطابق الثاني من الرواق السليماني بجنب غرفة كنتُ أسكنها أنا كاتب هذه السطور؛ حيث إن عشرات الطلاب كانوا ينقلون أغراضَه مُرَقَّمة في طابور رائع نَظّمه الشيخ ، حتى لاتحدث فوضى أو عشوائيّةٌ في نقلها ووضعها في أمكنتها الجديدة في الغرفة الجديدة. وظلّ حادثُ انتقال الشيخ من تلك الغرفة إلى هذه الغرفة حديثَ المجالس عبر أيام طويلة ، لطرافته الناشئة عن عمليّة التنسق التي قام بها ، والتي لم يرضَ جهدَه أن يحدث إخلالٌ بها من طالب مطبوع على الفوضويّة عدوّ للتنسيق والنظام.

       ذات مرة قال لي هامسًا في أذني : أخي العزيز! سمعتُ كثيرًا أنك رائع الخطّ الأردي والعربيّ . عندي وثائق للحكم الصادر من قبل محكمة لصالحي في مُحَاكَمة مَضَتْ ، أودّ أن يتمّ تبييضُها . وحَبَّذَا لو تَمَّ بيدكم أنتم ، حتى أُصَوِّر النسخةَ المُبَيَّضةَ ، وأحتفظ بها لوقت الحاجة . قلتُ: هو كما تريدون وأنا سعيدٌ بذلك إذا تَمَّ بيدي ؛ فتقررّ الميعاد ودخلتُ غرفتَه النظيفة المُنَسَّقَة التي كانت تنطق بتأنق صاحبها وحبّه للجمال والروعة والنظام ؛ فاستقبلني بحفاوة لائقة، وتَوَخَّى إجلاسي في مكان لائق يصلني فيه الهواءُ الطلقُ بجانب هواء المروحة الموضوعة على طاولة ، ويصلني الضوءُ الذي يساعدني على إجادة الخط وتحريك اليد به بسرعة مطلوبة . والطرافةُ في ذلك كلّه كَمَنَتْ في أن الشيخ بدل أن يغيّر مكانَ المروحة ، أو السرير، أو الطاولة وما إلى ذلك ، حَاوَلَ أن يُغَيِّر مكانَ جلوسي، ويطلب إليّ أن أقوم من مكاني إلى آخر أكثر من مرة ، وحَاوَلَ أن يغيّرني من جهة إلى أخرى، حتى «تَنَسَّقْتُ» حسب رضاه بعد نحو ساعة كاملة . وصبرتُ كثيرًا على دواعي الضحك التي كانت تُدَغْدِغُنِي كثيرًا ، وكدتُ أَتَفَجَّرُ ضحكاً ؛ ولكني ضَغَطتُها حتى خروجي بكل ما لديّ من قوة التحمل ، حتى خرجتُ من غرفته بعد نحو ثلاث ساعات وإثر خروجي من غرفته أشبعتُ نفسي ضحكاً وتَمَتُّعا بهذه الذكريات الجميلة التي تأكّدتُ عندها أنها لن تغيب عن مخيلتي وأنا حيٌّ يُرْزَق .

       وفي كثير من المرات قمتُ بعملية المراقبة في قاعة الامتحان في صحبة الشيخ الماتعة ، وأَمْتَعُ شيء في هذه المناسبات أن الشيخ كان يتحمل المسؤولية وحدَه ؛ حيث كان نشيطاً نشاطَ البرق؛ فكان إذا رأى طالبًا يحاول ممارسة الغش شفاهيًّا أو كتابيًّا ، يهجم عليه هجومَ جارح من الطير، فيجمع كلَّ أوراقه وأدوات كتابته وطاولته ويطير بها إلى مكان، فيجمع أوراق وأدوات وطاولة الطالب الموجودة في ذلك المكان ، فطير بها إلى مكان الطالب الأوّل، ويقول لهما : رُحْ إلى ذاك المكان ، ورُحْ أنت إلى هذا المكان ، فقد غيّرتُ مَقْعَدَيْكما ، حتى لا تَسْأَمَا؛ لأنّ السآمة تُحْرِجُ الطالب المُمْتَحَن – على صيغة اسم المفعول - ! فكانا يغرقان في الضحك ، وينصرفان إلى أداء مابقي من مسؤوليّاتهما وهما مُمْتَلِئَانِ سرورًا ومُنْتَعِشَان انتعاشًا لايَبْرَجُهُما حتى لدى مغادرتهما قاعة الامتحان .

       كان صعبًا على الطلاب المُمْتَحَنِيْن أن يحاولوا ولو محاولةً خفيفةً للغش والشيخُ موجود في القاعة . حقًّا لقد كان رجلاً لديه كامل الشعور بالمسؤوليّة في كل وظيفة يتولاّها في الحياة.

       ذاتَ مرة هَامَسَني قائلاً : لقد نَمَا إلى مٍسْمَعَيَّ أنكم تتمتعون بذوق رفيع فيما يتعلق بتناول الشأي وطبخه ، وتختارون أجود أنواعه ؛ فما هو النوع الذي تحبّونه ؟ قلتُ : في الأغلب أقتني وأستخدم «ليبتون غرين لايبل» Lipton Green Label ؛ لأنه متوسط الثمن بين أنواع الشأي الجيّدة ذات الأوراق العريضة التي تُعَدُّ بأسلوب يليق به ، وهو أنه يُسَخَّن الماءُ في إناء ثم تُوْضَعُ الأوراقُ بقدر مطلوب في إبريق الشأي ويُصَبُّ عليه الماءُ الساخنُ ، ويُحْكَمُ إغلاقُ الغطاء ، ويُوْضَع على الإبريق غطاءٌ من القماش يُمَثِّل قلنسوةً كبيرةً قائمةً . وروعةُ الشأي تَكْمُنُ في طريقة إعداده أكثر من أن تكمن في نوعيّة أوراقه ، وإن كانت النوعيّةُ مطلوبةً لكون الشأي ذا لذّة رائعة ورائحة مُنْعِشة .

       وما إن سَمِعَ الشيخُ هذا التفصيلَ والثمنَ – الذي كان غاليًا لديه – حتى قال : إني لا أختار من الشأي إلاّ ما أتحمله ثمنًا لشخصي أنا ولعائلتي في وطني «سلطانبور» وهذا الشأي الذي تتناولونه غالٍ جدًّا بالنسبة إليَّ . فَلأَصْبِر على الشأي الذي أتناولَه حالاً ؛ لأنه رخيصٌ واستهلاكُه سهلٌ عليَّ.

       الشيخُ حبيبُ الرحن كان نسيجَ وحده في كثير من أساليب الحياة التي كان يعيشها . وكان يُمَيِّزه عن زملائه في دارالعلوم ندوة العلماء أمران: براعته في التدريس للموادّ التي كان يُدَرِّسُها ، فقد كان في ذلك ممتازًا جدًّا كان يُشَارُ إليه بالبنان حقًّا؛ حيث كان يُعْمِلُ الأسلوب الأسهل الذي كان من ابتكاره ، والذي كان يُقَرِّب الموادَّ حتى إلى أفهام الأغبياء والمهملين من الطلاب ؛ واهتمامُه بالنظافة ، حيث كان مُبَالِغًا فيها ، لحدّ لا يقدر عليه عامّةُ الرجال في الأغلب ، ولايتعامل معه إلاّ من يُوْلَدُ منسوجًا على منواله من قبل الله عزّ وجلّ .

       لقد مات الشيخ ، وكلٌّ يموت ؛ ولكنه ترك ذكريات خالدةً ماتعة للغاية ، ولن يموت لدى من عاشه من الطلاب والزملاء . جزاه الله خيرًا عن جميع المُؤَهَّلين الذين خَرَّجَهم فأحسن تخريجَهم.

       لقد شَهِدَ الله أن الرجلَ كان حبيبًا لديّ جدًّا. والحبُّ يرجع إلى لباقته في الخطاب ؛ وأسلوبه في اللقاء ؛ وطلاقة وجهه ؛ وحن حديثه؛ ومحافظته على الأوقات ؛ وجدّيته في الحياة ؛ وكونه مُجْدِيًا لغيره بإتقانه للموادّ التي كان يُدَرِّسها ؛ وإلى مراعاة عواطف غيره في الكره والرضا ؛ وإلى شعوره بالمسؤولية ؛ وحرصه على أدائها على أحسن مستوى ، وبأوفى نصاب .

       وقد تكون لديه نقائصُ ، ما اطَّلَعتُ عليها ، وإنما اطَّلَعْتُ على مَحَامِده ودَوَاعِي الثناء عليه ؛ فكلُّ إنسان مُرَكَّبٌ من الخطأ والنسيان . ولا عصمةَ إلاّ لله ولمن اجْتَبَاه من الرسل .

       فجزاه الله خيرًا ، وأسكنه جنتَه العليا مع الصديقين والشهداء والأنبياء . وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

 

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.